الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَصَّ بِرِسَالَتِهِ مُحَمَّدًا وَانْتَخَبَهُ لِبَلَاغِهَا عَنْهُ، فَابْتَعَثَهُ إِلَى خَلْقِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. وَعَنَى بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: (قِيَمًا) مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، وَقِيلَ: عَنَى بِهِ: أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ يُصَدِّقُهَا وَيَحْفَظُهَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ عَنَى بِهِ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} يَقُولُ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ هَذَا مَعَ بَيَانِهِ مَعْنَى الْقِّيَمِ أَنَّ الْقِيَمَ مُؤَخَّرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ بِمَعْنَى: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ قَيِّمًا. حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ (قِيَمًا) قَالَ: مُسْتَقِيمًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا}: أَيْ مُعْتَدِلًا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا}. قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: “ وَلَكِنْ جَعْلَهُ قَيِّمًا “. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُأَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قِيَمًا) مُسْتَقِيمًالَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ، بَلْ بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُ يَشْهَدُ لِبَعْضٍ، لَا عِوَجَ فِيهِ، وَلَا مَيْلَ عَنِ الْحَقِّ، وَكُسِرَتِ الْعَيْنُ مِنْ قَوْلِهِ (عِوَجًا) لِأَنَّ الْعَرَبَ كَذَلِكَ تَقُولُ فِي كُلِّ اعْوِجَاجٍ كَانَ فِي دِينٍ، أَوْ فِيمَا لَا يُرَى شَخْصُهُ قَائِمًا، فَيُدْرَكُ عِيَانًا مُنْتَصِبًا كَالْعَاجِ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الْعَيْنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ الْعِوَجُ فِي الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالشَّخْصِ الْمُنْتَصِبِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عِوَجٍ فِي الْأَشْخَاصِ الْمُنْتَصِبَةِ قِيَامًا، فَإِنَّ عَيْنَهَا تَفْتَحُ كَالْعَوَجِ فِي الْقَنَاةِ، وَالْخَشَبَةِ، وَنَحْوِهَا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُلْتَبسًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عِلِيَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُلْتَبسًا. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ (قَيِّمًا) وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا، التَّقْدِيمُ إِلَى جَنْبِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ إِنَّمَا افْتَتَحَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَبِالْخَبَرِ عَنْ إِنْزَالِ كِتَابِهِ عَلَى رَسُولِهِ إِخْبَارًا مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنْ «الْمُشْرِكِينَ كَانُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ عَلَّمَهُمُوهَا الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَمَرُوهُمْ بِمُسَآلَتِهِمُوهُ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَا فَهُوَ نَبِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِهَا فَهُوَ مُتَقَوِّلٌ، فَوَعَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَوَابِ عَنْهَا مَوْعِدًا، فَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَنْهُ بَعْضَ الْإِبْطَاءِ، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ عَنْ مِيعَادِهِ الْقَوْمَ، فَتَحَدَّثَ الْمُشْرِكُونَ بِأَنَّهُ أَخْلَفَهُمْ مَوْعِدَهُ، وَأَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةِ جَوَابًا عَنْ مُسَائِلِهِمْ، وَافْتَتَحَ أَوَّلَهَا بِذِكْرِهِ، وَتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحْدُوثَتِهِمُ الَّتِي تَحَدَّثُوهَا بَيْنَهُم».
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا يَرْوِي أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ: «بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيِّطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمَرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرَأَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ فَاتَّبَعُوهُ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُخْبِرْكُمْ، فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعَقَبَةُ حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ، عَنْ أُمُورٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحْدِثُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمُ خَمْسَ عَشْرَةَ قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْثُ الْوَحْي عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ السُّورَةُ فَقَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يَعْنِي مُحَمَّدًا إِنَّك رَسُولِي فِي تَحْقِيقِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ نُبُوَّتِهِ {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا}»): أَيْ مُعْتَدِلًا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْقُرْآنَ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ لِيُنْذِركُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بَأْسًا مِنَ اللَّهِ شَدِيدًا، وَعَنَى بِالْبَأْسِ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ، وَالنَّكَالَ الْحَاضِرَ وَالسَّطْوَةَ، وَقَوْلُهُ: {مِنْ لَدُنْهُ} يَعْنِي: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} عَاجِلَ عُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ. {مِنْ لَدُنْهُ}: أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ الَّذِي بَعَثَكَ رَسُولًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {مِنْ لَدُنْهُ}: أَيْ مِنْ عِنْدِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ مَفْعُولُ قَوْلِهِ (لِيُنْذِرَ) فَإِنَّ مَفْعُولَهُ مَحْذُوفٌ اكْتَفَى بِدَلَالَةٍ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ مُضْمَرٌ مُتَّصِلٌ بِـ يُنْذِرَ قَبْلَ الْبَأْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُنْذِركُمْ بَأْسًا، كَمَا قِيلَ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 175] إِنَّمَا هُوَ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: وَيُبَشِّرُ الْمُصَدِّقِينَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} يَقُولُ: ثَوَابًا جَزِيلًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمَلِهِمْ فِي الدُّنْيَا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ الثَّوَابُ: هُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ. وَقَوْلُهُ: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} خَالِدِينَ، لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ، وَلَا يُنْقَلُونَ، وَنَصَبَ مَاكِثِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي حَالِ مَكْثِهِمْ فِي ذَلِكَ الْأَجْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}: أَيْ فِي دَارِ خُلْدٍ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، الَّذِينَ صَدَّقُوكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُحَذِّرُ أَيْضًا مُحَمَّدٌ الْقَوْمَ {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، بَأْسَ اللَّهِ وَعَاجِلَ نَقْمَتِهِ، وَآجِلَ عَذَابِهِ، عَلَى قِيلِهِمْ ذَلِكَ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} يَعْنِي قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يَقُولُ: مَا لِقَائِلِي هَذَا الْقَوْلَ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (بِهِ): يَعْنِي بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ، وَالْهَاءَ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ هَذَا الْقَوْلَ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عِلْمٍ، فَلِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَعَظَمَتِهِ قَالُوا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {وَلَا لِآبَائِهِمْ} يَقُولُ: وَلَا لِأَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ عَلَى مَثَلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، كَانَ لَهُمْ بِاللَّهِ وَبِعَظَمَتِهِ عِلْمٌ، وَقَوْلُهُ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} بِنَصْبِ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى: كَبُرَتْ كَلِمَتُهُمُ الَّتِي قَالُوهَا كَلِمَةً عَلَى التَّفْسِيرِ، كَمَا يُقَالُ: نِعْمَ رَجُلَا عَمْرُو، وَنِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا قَامَ، وَنِعْمَ رَجُلًا قَامَ، وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِييِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ كَلِمَةٌ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} وَقَالَ: هِيَ فِي النَّصْبِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَلَقَـدْ عَلِمْـتُ إِذَا اللِّقَاحُ تَرَوَّحَتْ هَدَجَ *** الرِّئَـالِ تَكُـبُّهُنَّ شَـمَالًا أَيْ تَكُبُّهُنَّ الرِّيَاحُ شَمَالًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} رَفْعًا، كَمَا يُقَالُ: عَظُمَ قَوْلُكَ وَكَبُرَ شَأْنُكَ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ {كَبُرَتْ كَلِمَةً} مُضْمَرٌ، وَكَانَ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} نَصْبًا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: عَظُمَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِالْقَائِلُونَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًابِقَيْلِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا كَذِبًا وَفِرْيَةً افْتَرَوْهَا عَلَى اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: فَلَعَلَّكَ يَا مُحَمَّدُ قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا عَلَى آثَارِ قَوْمِكَ الَّذِينَ قَالُوا لَكَ {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} تَمَرُّدًا مِنْهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ، إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ، فَيُصَدِّقُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حُزْنًا وَتَلَهُّفًا وَوَجْدًا، بِإِدْبَارِهِمْ عَنْكَ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ وَتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِكَ. يُقَالُ مِنْهُ: بَخَعَ فُلَانٌ نَفْسَهُ يَبْخَعُهَا بَخْعًا وَبُخُوعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: أَلَّا أَيُّهَـذَا الْبَـاخِعُ الْوَجْـدَ نَفْسَـهُ *** لِشَـيْءٍ نَحَتْـهُ عَـنْ يَدَيْـهِ الْمَقَـادِرُ يُرِيدُ: نَحَّتْهُ فَخَفَّفَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (بَاخِعٌ) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} يَقُولُ: قَاتَلٌ نَفْسَكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَسَفًا) فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ غَضَبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} قَالَ: غَضَبًا. وَقَالَ آخَرُونَ: جَزَعًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى “ ح “، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ (أَسَفًا) قَالَ: جَزَعًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: حُزْنًا عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: (أَسَفًا) قَالَ: حُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْأَسَفِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذِهِ مُعَاتَبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذَكَّرَهُ عَلَى وَجْدِهِ بِمُبَاعَدَةِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَكَانَ بِهِمْ رَحِيمًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} يُعَاتِبُهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِينَ فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ: أَيْ لَا تَفْعَلْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرِهِ: إِنَّا جَعَلَنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لِلْأَرْضِ {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} يَقُولُ: لِنَخْتَبِرُ عِبَادَنَا أَيَهُمُّ أَتْرَكُ لَهَا وَأَتْبَعُ لِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا وَأَعْمَلُ فِيهَا بِطَاعَتِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى “ ح “، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} قَالَ: مَا عَلَيْهَا مِنْ شَيْءٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} ذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاء». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَالُوا فِي تَأْوِيلِهِ نَحْوَ قَوْلِنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَتْرُكُ لَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيَهُمُّ أَتْبَعُ لِأَمْرِي وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَإِنَّا لَمُخَرِّبُوهَا بَعْدَ عِمَارَتِنَاهَا بِمَا جَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ، فَمُصَيَّرُوهَا صَعِيدًا جُرُزًا لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا وَلَا زَرْعَ وَلَا غَرْسَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدَ بِالصَّعِيدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمُسْتَوِي بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ هُوَ شَبِيهٌ بِمَعْنَى قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى الْجُرُزِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، فَالّ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يَقُولُ: يَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {صَعِيدًا جُرُزًا} قَالَ: بَلْقَعًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَالصَّعِيدُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يَعْنِي: الْأَرْضَ إِنَّ مَا عَلَيْهَا لِفَان وَبَائِدٌ، وَإِنَّ الْمَرْجِعَ لَإِلَيَّ، فَلَا تَأْسَ، وَلَا يُحْزِنْكَ مَا تَسْمَعُ وَتَرَى فِيهَا. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {صَعِيدًا جُرُزًا} قَالَ: الْجُرُزُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} قَالَ: وَالْجُرُزُ: لَا شَيْءَ فِيهَا، لَا نَبَاتَ وَلَا مَنْفَعَةَ، وَالصَّعِيدُ: الْمُسْتَوِي. وَقَرَأَ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ: مُسْتَوِيَةً: يُقَالُ: جُرِزَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مَجْرُوزَةٌ، وَجَرَزَهَا الْجَرَادُ وَالنِّعَمُ، وأرَضُونَ أَجْرَازٌ: إِذَا كَانَتْ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَيُقَالُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ: جُرُزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ لِجَدُوبِهَا وَيُبُسِهَا وَقِلَّةِ أَمْطَارِهَا، قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السُّنُونَ الْأَجْرَازُ يُقَالُ: أَجْرَزَ الْقَوْمُ: إِذَا صَارَتْ أَرْضُهُمْ جُرُزًا، وَجَرَزُوا هُمْ أَرْضَهُمْ: إِذَا أَكَلُوا نَبَاتَهَا كُلَّهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْ حَسِبْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، فَإِنَّمَا خَلَقْتُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَحُجَّتِي بِكُلِّ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ عِبَادِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: لَيْسُوا عَجَبًا بِأَعْجَبِ آيَاتِنَا، وَقَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَعْجَبُ آيَاتِنَا: لَيْسُوا أَعْجَبَ آيَاتِنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} كَانُوا يَقُولُونَ هُمْ عَجِبٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يَقُولُ: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أَيْ وَمَا قَدَرُوا مِنْ قدرٍ فِيمَا صَنَعْتُ مِنْ أَمْرِ الْخَلَائِقِ، وَمَا وَضَعْتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَمْ حَسَبْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، فَإِنَّ الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يَقُولُ: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى نَبِيِّهِ احتِجَاجًا بِهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ سَأَلُوهُ عَنْهَا اخْتِبَارًا مِنْهُمْ لَهُ بِالْجَوَابِ عَنْهَا صَدَقَهُ، فَكَانَ تَقْرِيعُهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا هُوَ أَوْكَدُ عَلَيْهِمْ فِي الْحُجَّةِ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ عِنْدَ الْإِجَابَةِ عَنْهُ أَشْبَهَ مِنَ الْخَبَرِ عَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ النِّعَمِ. وَأَمَّا الْكَهْفُ، فَإِنَّهُ كَهْفُ الْجَبَلِ الَّذِي أَوَى إِلَيْهِ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا الرَّقِيمُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمُ قَرْيَةٍ، أَوْ وَادٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنِهِمْ فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَزْعُمُ كَعْبٌ أَنَّ الرَّقِيمَ: الْقَرْيَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} قَالَ: الرَّقِيمُ: وَادٍ بَيْنَ عُسْفانَ وَأَيَلَةَ دُونَ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أيَلَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: الرَّقِيمُ: وَادٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الرَّقِيمَ: الْوَادِي الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ (الرَّقِيمِ) قَالَ: يَزْعُمُ كَعْبٌ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: (الرَّقِيمِ) قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ: الرَّقِيمُ: كِتَابُ تَبَّانهمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ. حُدِّثْنَا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: أَمَّا الْكَهْفُ: فَهُوَ غَارُ الْوَادِي، وَالرَّقِيمُ: اسْمُ الْوَادِي. وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} يَقُولُ: الْكِتَابُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الرَّقِيمُ: لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَتَبُوا فِيهِ قِصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّقِيمُ: كِتَابٌ، وَلِذَلِكَ الْكِتَابِ خَبَرٌ فَلَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَعَنَّا فِيهِ، وَقَرَأَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ اسْمُ جَبَلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ: الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اسْمَ ذَلِكَ الْجَبَلِ: بناجلوسُ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ بنجلوسُ ُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ أَنَّ اسْمَ جَبَلِ الْكَهْفِ: بناجلوسُ. وَاسْمَ الْكَهْفِ: حيزمُ. وَالْكَلْبُ: حُمْرَانُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّقِيمِ مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ، إِلَّا حَنَانًا، وَالْأَوَّاهَ، وَالرَّقِيمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ، أَكِتَابٌ، أَمْ بُنْيَانٌ؟. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي الرَّقِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ: لَوْحٌ، أَوْ حَجَرٌ، أَوْ شَيْءٌ كُتِبَ فِيهِ كِتَابٌ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَخَبَرُهُمْ حِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: رُفِعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ فِي خِزَانَةِ الْمَلِكِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ جُعِلَ عَلَى بَابِ كَهْفِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ، وَإِنَّمَا الرَّقِيمُ فَعِيلٌ، أَصْلُهُ: مَرْقُومٌ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا قِيلَ لِلْمَجْرُوحِ: جَرِيحٌ، وَلِلْمَقْتُولِ: قَتِيلٌ، يُقَالُ مِنْهُ: رَقَمْتُ كَذَا وَكَذَا: إِذَا كَتَبْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ رَقْمٌ، لِأَنَّهُ الْخَطُّ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ ثَمَنُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْحَيَّةِ: أَرْقَمُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْآثَارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَلَيْكَ بِالرَّقْمَةِ، وَدَعِ الضَّفَّةَ: بِمَعْنَى عَلَيْكَ بِرَقْمَةِ الْوَادِي حَيْثُ الْمَاءُ، وَدَعِ الضَّفَّةَ الْجَانِبَةَ. وَالضَّفَّتَانِ: جَانِبَا الْوَادِي، وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي قَالَ: الرَّقِيمُ الْوَادِي، ذَهَبَ بِهِ إِلَى هَذَا، أَعْنِي بِهِ إِلَى رَقْمَةِ الْوَادِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} حِينَ أَوَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ إِلَى كَهْفِ الْجَبَلِ، هَرَبًا بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالُوا إِذْ أَوَوْهُ: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} رَغْبَةً مِنْهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، فِي أَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ رَحْمَةً، وَقَوْلُهُ {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} يَقُولُ: وَقَالُوا: يَسِّرْ لَنَا بِمَا نَبْتَغِي وَمَا نَلْتَمِسُ مِنْ رِضَاكَ وَالْهَرَبِ مِنَ الْكُفْرِ بِكَ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَدْعُونَا إِلَيْهَا قَوْمُنَا، (رَشَدًا) يَقُولُ: سَدَادًا إِلَى الْعَمَلِ بِالَّذِي تُحِبُّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيسَبَبِ مَصِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى دِينِ عِيسَى، وَكَانَ لَهُمْ مَلِكٌ عَابِدُ وَثَنٍ، دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَهَرَبُوا بِدِينِهِمْ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، أَوْ يَقْتُلَهُمْ، فَاسْتَخَفُّوا مِنْهُ فِي الْكَهْفِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو فِي قَوْلِهِ: {أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} كَانَتِ الْفِتْيَةُ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ كَافِرًا، وَقَدْ أُخْرِجَ لَهُمْ صَنَمًا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} قَالَ: فَاعْتَزَلُوا عَنْ قَوْمِهِمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ لِأَبِي كَهْفٌ يُأْوِي فِيهِ غَنَمَهُ، فَانْطَلِقُوا بِنَا نَكُنْ فِيهِ، فَدَخَلُوهُ، وَفُقِدُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطُلِبُوا، فَقِيلَ: دَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَقَالَ قَوْمُهُمْ: لَا نُرِيدُ لَهُمْ عُقُوبَةً وَلَا عَذَابًا أَشَدَّ مِنْ أَنَّ نَرْدِمَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَهْفَ، فَبَنَوْهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ رَدَمُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا عَلَى دِينِ عِيسَى، وَرُفِعَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ الَّذِي كَانَ رُدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {كَمْ لَبِثْتُمْ}؟ {فَقَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} حَتَّى بَلَغَ {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وَكَانَ وَرِقُ ذَلِكَ الزَّمَانِ كِبَارًا، فَأَرْسَلُوا أَحَدَهُمْ يَأْتِيهِمْ بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَخْرُجَ، رَأَى عَلَى بَابِ الْكَهْفِ شَيْئًا أَنْكَرَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَأَنْكَرَ مَا رَأَى، ثُمَّ أَخْرَجَ دِرْهَمًا، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَأَنْكَرُوهُ، وَأَنْكَرُوا الدِّرْهَمَ، وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا، هَذَا مِنْ وَرِقِ غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى انْطَلَقُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، وَكَانَ لِقَوْمِهِمْ لَوْحٌ يَكْتُبُونَ فِيهِ مَا يَكُونُ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ، وَسَأَلَهُ الْمَلِكُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ، وَنَظَرُوا فِي الْكِتَابِ مَتَى فُقِدَ، فَاسْتَبْشِرُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ لَهُ: انْطَلَقَ بِنَا فَأَرِنَا أَصْحَابَكَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقُوا مَعَهُ، لِيُرِيَهُمْ، فَدَخَلَ قَبْلَ الْقَوْمِ، فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ، فَقَالَ الَّذِينَ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: مَرَجَ أَمْرُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْخَطَايَا وَطَغَتْ فِيهِمُ الْمُلُوكُ، حَتَّى عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا عَلَى أَمْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، مُتَمَسِّكُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَكَانَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، مَلِكٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: دَقْيَنوسُ، كَانَ قَدْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ، وَذَبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ أَقَامَ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، كَانَ يَنْزِلُ فِي قُرَى الرُّومِ، فَلَا يَتْرُكُ فِي قَرْيَةٍ يَنْزِلُهَا أَحَدًا مِمَّنْ يَدِينُ بِدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَّا قَتَلَهُ، حَتَّى يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، وَيَذْبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ، حَتَّى نَزَلَ دقينوسُ مَدِينَةَ الْفِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا دقينوسُ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَاسْتَخْفَوْا مِنْهُ وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَكَانَ دقينوسُ قَدْ أَمَرَ حِينَ قَدَّمَهَا أَنْ يَتْبَعَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فَيُجْمِعُوا لَهُ، وَاتَّخَذَ شُرَطًا مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِهَا، فَجَعَلُوا يَتَّبِعُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي أَمَاكِنِهِمُ الَّتِي يَسْتَخِفُّونَ فِيهَا، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ إِلَى دقينوسَ، فَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمَجَامِعِ الَّتِي يُذْبَحُ فِيهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَيُخَيِّرُهُمْ بَيْنَ الْقَتْلِ، وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ وَيُفْظَعُ بِالْقَتْلِ فَيَفتَتِنُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ فَيَقْتُلُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الصَّلَابَةِ مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، جَعَلُوا يُسَلِّمُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ وَالْقَتْلِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُقَطَّعُونَ، ثُمَّ يَرْبُطُ مَا قَطَعَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، فَيُعَلَّقُ عَلَى سُورِ الْمَدِينَةِ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، حَتَّى عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فَتُرِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ عَلَى دِينِهِ فَقُتِلَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، حَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا، حَتَّى تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَنَحِلَتْ أَجْسَامُهُمْ، وَاسْتَعَانُوا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالْبُكَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ، وَكَانُوا فَتِيَّةً أَحْدَاثًا أَحْرَارًا مِنْ أَبْنَاءِ أَشْرَافِ الرُّومِ. فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَقَدْ حُدِّثَتْ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ حَدَاثَةِ أَسْنَانِهِ وَضَحَ الْوَرِقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانُوا كَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ، يَبْكُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغِيثُونَهُ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ: مَكْسَلْمِينَا، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْمَلِكَ عَنْهُمْ، ومحسيمِيلنينَا، وَيَمْلِيخَا، وَ مَرْطُوسُ، وَكشوطُوشُ، وبيرونُسُ، ودينمُوسُ، ويطونسُ قالوسُ فَلَمَّا أَجْمَعَ دقينوسُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، بَكَوْا إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِكَ إِلَهًا {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} اكْشِفْ عَنْ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَادْفَعْ عَنْهُمُ الْبَلَاءَ وَأَنْعِمْ عَلَى عِبَادِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ، وَمُنِعُوا عِبَادَتَكَ إِلَّا سِرًّا، مُسْتَخْفِينَ بِذَلِكَ، حَتَّى يَعْبُدُوكَ عَلَانِيَةً، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، عَرَفَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، مِمَّنْ كَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، وَذَكَرُوا أَمْرَهُمْ، وَكَانُوا قَدْ خَلَوْا فِي مُصَلًّى لَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَوَقَّعُونَ أَنْ يُذْكَرُوا لدقينوسَ، فَانْطَلَقَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِمْ مُصَلَّاهُمْ، فَوَجَدُوهُمْ سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ يَتَضَرَّعُونَ، وَيَبْكُونَ، وَيَرْغَبُونَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنْ دقينوسَ وَفِتْنَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ أُولَئِكَ الْكَفَرَةُ مَنْ عُرَفَائِهِمْ قَالُوا لَهُمْ: مَا خَلَّفَكُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَلِكِ؟ انْطَلَقُوا إِلَيْهِ! ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى دقينوسَ، وَقَالُوا: تَجْمَعُ النَّاسَ لِلذَّبْحِ لِآلِهَتِكَ، وَهَؤُلَاءِ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، يَسْخَرُونَ مِنْكَ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِكَ، وَيَعْصُونَ أَمْرَكَ، وَيَتْرُكُونَ آلِهَتَكَ، يَعْمِدُونَ إِلَى مُصَلًّى لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُصَلُونَ فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى إِلَهِهِمْ وَإِلَهِ عِيسَى وَأَصْحَابِ عِيسَى، فَلَمْ تَتْرُكُهُمْ يَصْنَعُونَ هَذَا وَهْمُ بَيْنَ ظَهَرَانِي سُلْطَانِكَ وَمُلْكِكَ، وَهُمْ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ: رَئِيسُهُمْ مَكْسَلْمِينَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عُظَمَاءِ الْمَدِينَةِ؟ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لدقينوسَ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى الَّذِي كَانُوا فِيهِ تُفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدُّمُوعِ مُعَفَّرَةً وُجُوهُهُمْ فِي التُّرَابِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا الذَّبْحَ لِآلِهَتِنَا الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ تَجْعَلُوا أَنْفُسَكُمْ أُسْوَةً لِسَرَاةِ أَهْلِ مَدِينَتِكُمْ، وَلِمَنْ حَضَرَ مِنَّا مِنَ النَّاسِ؟ اخْتَارُوا مِنِّي: إِمَّا أَنْ تَذْبَحُوا لِآلِهَتِنَا كَمَا ذَبَحَ النَّاسُ، وَإِمَّا أَنْ أَقْتُلَكُمْ! فَقَالَ مَكْسَلْمِينَا: إِنَّ لَنَا إِلَهًا نَعْبُدُهُ مَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَظَمَتُهُ، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا أَبَدًا، وَلَنْ نُقِرَّ بِهَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّنَا، لَهُ الْحَمْدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنْ أَنْفُسِنَا خَالِصًا أَبَدًا، إِيَّاهُ نَعْبُدُ، وَإِيَّاهُ نَسْأَلُ النَّجَاةَ وَالْخَيْرَ. فَأَمَّا الطَّوَاغِيتُ وَعِبَادَتُهَا، فَلَنْ نُقِرَّ بَهَا أَبَدًا، وَلَسْنَا بِكَائِنِينَ عُبَّادًا لِلشَّيَاطِينِ، وَلَا جَاعِلِي أَنْفُسَنَا وَأَجْسَادَنَا عُبَّادًا لَهَا، بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ رَهْبَتَكَ، أَوْ فَرَقًا مِنْ عُبُودِتِكَ، اصْنَعْ بِنَا مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ مَكْسَلْمِينَا لدقينوسَ مِثْلَ مَا قَالَ، قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لَهُ، أَمَرَ بِهِمْ فَنُزِعَ عَنْهُمْ لَبُوسٌ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ لَبُوسِ عُظَمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَإِنِّي سَأُؤَخِّرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي وَبِطَانَتِي، وَأَهْلِ بِلَادِي، وسأفرُغُ لَكُمْ، فَأُنْجَزُ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُعَجِّلَ ذَلِكَ لَكُمْ إِلَّا أَنِّي أَرَاكُمْ فِتْيَانًا حَدِيثَةً أَسْنَانُكُمْ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أُهْلِكَكُمْ حَتَّى أَسْتَأْنِّيَ بِكُمْ، وَأَنَا جَاعِلٌ لَكُمْ أَجَلًا تَذَكَّرُونَ فِيهِ، وَتُرَاجِعُونَ عُقُولَكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِحِلْيَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَنُزِعَتْ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأَخْرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، وَانْطَلَقَ دقينوسُ مَكَانَهُ إِلَى مَدِينَةٍ سِوَى مَدِينَتِهِمُ الَّتِي هَمَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْهَا لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ دقينوسَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَدِينَتِهِمْ بَادَرُوا قُدُومَهُ، وَخَافُوا إِذَا قَدِمَ مَدِينَتَهُمْ أَنْ يُذَكَّرَ بِهِمْ، فَأْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفَقَةً مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ، فَيَتَصَدَّقُوا مِنْهَا، وَيَتَزَوَّدُوا بِمَا بَقِيَ، ثُمَّ يَنْطَلِقُوا إِلَى كَهْفٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: بنجلوسُ فَيَمْكُثُوا فِيهِ، وَيَعْبُدُوا اللَّهَ حَتَّى إِذَا رَجَعَ دقينوسُ أَتَوْهُ فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، عَمَدَ كُلُّ فَتًى مِنْهُمْ، فَأُخِذَ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ نَفَقَةً، فَتَصَدَّقَ مِنْهَا، وَانْطَلَقُوا بِمَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنْ نَفَقَتِهِمْ، وَاتَّبَعَهُمْ كَلْبٌ لَهُمْ، حَتَّى أَتَوْا ذَلِكَ الْكَهْفَ، الَّذِي فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَبِثُوا فِيهِ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَيَاةُ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ، وَجَعَلُوا نَفَقَتَهُمْ إِلَى فَتًى مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ يَمْلِيخَا، فَكَانَ عَلَى طَعَامِهِمْ، يَبْتَاعُ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ سِرًّا مِنْ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَجْمَلِهِمْ وَأَجْلِدِهُمْ، فَكَانَ يَمْلِيخَا يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ يَضَعُ ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ حِسَانًا، وَيَأْخُذُ ثِيَابًا كَثِيَابِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَسْتَطْعِمُونَ فِيهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ وَرِقَهُ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَيَتَسَمَّعُ وَيَتَجَسَّسُ لَهُمُ الْخَبَرَ، هَلْ ذُكِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ فِي مَلَإِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَلَبِثُوا بِذَلِكَ مَا لَبِثُوا، ثُمَّ قَدِمَ دقينوسُ الْجَبَّارُ الْمَدِينَةَ الَّتِي مِنْهَا خَرَجَ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَهِيَ مَدِينَةُ أفَمْوسَ، فَأَمَرَ عُظَمَاءَ أَهْلِهَا، فَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، فَفَزِعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَتَخَبَّئُوا فِي كُلِّ مَخْبَأٍ، وَكَانَ يَمْلِيخَا بِالْمَدِينَةِ يَشْتَرِي لِأَصْحَابِهِ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ بِبَعْضِ نَفَقَتِهِمْ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يُبْكِي وَمَعَهُ طَعَامٌ قَلِيلٌ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْجَبَّارَ دقينوسَ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا وَافْتَقَدُوا وَالْتَمَسُوا مَعَ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيَذْبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَزِعُوا فَزَعًا شَدِيدًا، وَوَقَعُوا سُجُودًا عَلَى وُجُوهِهِمْ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ إِنَّ يَمْلِيخَا قَالَ لَهُمْ: يَا إِخْوَتَاهُ، ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ، فَاطْعَمُوا مِنْ هَذَا الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، وَأَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَذَرًا وَتَخَوُّفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَطَعِمُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَيَتَدَارَسُونَ، وَيَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى حُزْنٍ مِنْهُمْ، مُشْفِقِينَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ صَاحِبُهُمْ مِنَ الْخَبَرِ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الْكَهْفِ، فَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ مُوقِنُونَ، مُصَدِّقُونَ بِالْوَعْدِ، وَنَفَقَتُهُمْ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَقَدَهُمْ دقينوسُ، فَالْتَمَسَهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَقَالَ لِعُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: لَقَدْ سَاءَنِي شَأْنُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا، لَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بِي غَضَبًا عَلَيْهِمْ فِيمَا صَنَعُوا فِي أَوَّلِ شَأْنِهِمْ، لِجَهْلِهِمْ مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِي، مَا كُنْتُ لِأَجْهَلَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِي، وَلَا أُؤَاخِذُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ إِنْ هُمْ تَابُوا وَعَبَدُوا آلِهَتِي، وَلَوْ فَعَلُوا لِتَرَكْتُهُمْ، وَمَا عَاقَبْتُهُمْ بِشَيْءٍ سَلَفَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُظَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَا أَنْتَ بِحَقِيقٍ أَنْ تَرْحَمَ قَوْمًا فَجَرَةً مَرَدَةً عُصَاةً، مُقِيمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، وَقَدْ كُنْتَ أَجَّلْتَهُمْ أَجَلًا وَأَخَّرْتَهُمْ عَنِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي أَصَبْتَ بِهَا غَيْرَهُمْ، وَلَوْ شَاءُوا لَرَجَعُوا فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يَنْزَعُوا وَلَمْ يَنْدَمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا مُنْذُ انْطَلَقْتَ يُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِقُدُومِكَ فَرُّوا فَلَمْ يُرُوا بَعْدُ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُؤْتَى بِهِمْ، فَأَرْسِلْ إِلَى آبَائِهِمْ فَامْتَحِنْهُمْ، وَاشْدُدْ عَلَيْهِمْ يَدُلُّوكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُخْتَبِئُونَ مِنْكَ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لدقينوسَ الْجَبَّارِ، غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى آبَائِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُمْ وَقَالَ: أَخْبَرُونِي عَنْ أَبْنَائِكُمُ الْمَرَدَةِ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرِي، وَتَرَكُوا آلِهَتِي، ائْتُونِي بِهِمْ، وَأَنْبِئُونِي بِمَكَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُ آبَاؤُهُمْ: أَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَعْصِ أَمْرَكَ وَلَمْ نُخَالِفْكَ، قَدْ عَبَدْنَا آلِهَتَكَ وَذَبَحْنَا لَهُمْ، فَلِمَ تَقْتُلُنَا فِي قَوْمٍ مَرَدَةٍ؟ قَدْ ذَهَبُوا بِأَمْوَالِنَا فَبَذَّرُوهَا وَأَهْلَكُوهَا فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَارْتَقَوْا فِي جَبَلٍ يُدْعَى بنجلوسُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْضٌ بَعِيدَةٌ هَرَبًا مِنْكَ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَجَعَلَ يَأْتَمِرُ مَاذَا يَصْنَعُ بِالْفَتِيَّةِ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَهْفِ فَيُسَدَّ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ، أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَهُمْ، وَيُكْرِمَ أَجْسَادَ الْفِتْيَةِ، فَلَا يَجُولُ، وَلَا يَطُوفُ بِهَا شَيْءٌ، وَأَرَادَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لِأُمَّةٍ تُسْتَخْلَفُ مِنْ بُعْدِهِمْ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. فَأَمَرَ دقينوسُ بِالْكَهْفِ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: دَعَوْا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الْمَرَدَةَ الَّذِينَ تَرَكُوا آلِهَتِي فَلْيَمُوتُوا كَمَا هُمْ فِي الْكَهْفِ عَطَشًا وَجُوعًا، وَلْيَكُنْ كَهْفُهُمُ الَّذِي اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ قَبْرًا لَهُمْ، فَفَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ يَعْلَمُونَ مَا يُصَنَعُ بِهِمْ، وَقَدْ تَوَفَّى اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ وَفَاةَ النُّوَّمِ، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الْكَهْفِ، قَدْ غَشَّاهُ اللَّهُ مَا غَشَّاهُمْ، يُقلَّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ كَانَا فِي بَيْتِ الْمَلِكِ دقينوسَ يَكْتُمَانِ إِيمَانَهُمَا: اسْمُ أَحَدِهِمَا بِيدْرُوسُ، وَاسْمُ الْآخَرِ: رُونَاسُ، فَأْتَمَرَا أَنْ يَكْتُبَا شَأْنَ الْفِتْيَةِ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، أَنْسَابَهُمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَقِصَّةَ خَبَرِهُمْ فِي لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ، ثُمَّ يَصْنَعَا لَهُ تَابُوتًا مِنْ نُحَاسٍ، ثُمَّ يَجْعَلَا اللَّوْحَيْنِ فِيهِ، ثُمَّ يَكْتُبَا عَلَيْهِ فِي فَمِ الْكَهْفِ بَيْنَ ظَهَرَانِيِ الْبُنْيَانِ، وَيَخْتِمَا عَلَى التَّابُوتِ بِخَاتَمِهِمَا، وَقَالَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَعْلَمُ مَنْ فَتْحِ عَلَيْهِمْ حِينَ يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ خَبَرَهُمْ، فَفَعَلَا ثُمَّ بَنَيَا عَلَيْهِ فِي الْبُنْيَانِ، فَبَقِيَ دقينوسُ وَقَرْنُهُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْقَوْا، ثُمَّ هَلَكَ دقينوسُ وَالْقَرْنُ الَّذِي كَانُوا مَعَهُ، وَقُرُونٌ بَعْدَهُ كَثِيرَةٌ، وَخَلَّفَتِ الْخُلُوفُ بَعْدَ الْخُلُوفِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءُ عُظَمَاءِ مَدِينَتِهِمْ، وَأَهْلُ شَرَفِهِمْ، فَخَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ أَسَنُّهُمْ: إِنِّي لِأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُهُ، قَالُوا: مَاذَا تَجِدُ؟ قَالَ: أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنَّ رَبِّي رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَجِدُ، فَقَامُوا جَمِيعًا، فَقَالُوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} فَاجْتَمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكَهْفَ، وَعَلَى مَدِينَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ جَبَّارٌ يُقَالُ لَهُ دقينوسُ، فَلَبِثُوا فِي الْكَهْفِ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا رَقْدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِتْيَانًا مُلُوكًا مُطَوَّقَيْنِ مُسَوَّرَيْنِ ذَوِي ذَوَائِبَ، وَكَانَ مَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ، فَخَرَجُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ عَظِيمٍ فِي زِيٍّ وَمَوْكِبٍ، وَأَخْرَجُوا مَعَهُمْ آلْهَتُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْفِتْيَةِ الْإِيمَانَ فَآمَنُوا، وَأَخْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِهِ، فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ إِيمَانُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: نَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يُصِيبُنَا عِقَابٌ بِجُرْمِهِمْ، فَخَرَجَ شَابٌّ مِنْهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَرَآهُ جَالِسًا وَحْدَهُ، فَرَجَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَثْلِ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُونَ، فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا جَمْعُكُمْ؟ وَقَالَ آخَرُ: بَلْ مَا جَمْعُكُمْ؟ وَكُلٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ صَاحِبِهِ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لِيَخْرُجْ مِنْكُمْ فَتَيَانِ، فَيَخْلُوَا، فَيَتَوَاثَقَا أَنْ لَا يُفْشِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ يُفْشِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمْرَهُ، فَإِنَّا نَرْجُو أَنْ نَكُونَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَخَرَجَ فَتَيَانِ مِنْهُمْ فَتَوَاثَقَا، ثُمَّ تَكَلَّمَا، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَهُ لِصَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَا مُسْتَبْشِرَيْنِ إِلَى أَصْحَابِهِمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا هُمْ جَمِيعًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِذَا كَهْفٌ فِي الْجَبَلِ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ائْتُوا إِلَى الْكَهْفِ {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} فَدَخَلُوا الْكَهْفَ، وَمَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ فَنَامُوا، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَقْدَةً وَاحِدَةً، فَنَامُوا ثَلَاثَ مِئَةِ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قَالَ: وَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ فَطَلَبُوهُمْ وَبَعَثُوا الْبَرْدَ، فَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ آثَارَهُمْ وَكَهْفَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ كَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ فِي لَوْحٍ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ أَبْنَاءُ مُلُوكِنَا، فَقَدْنَاهُمْ فِي عِيدِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا فِي سَنَةِ كَذَا وَكَذَا، فِي مَمْلَكَةِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَرَفَعُوا اللَّوْحَ فِي الْخِزَانَةِ، فَمَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ مُسْلِمٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ، فَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةِ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ هَرَبًا مِنْ طَلَبِ سُلْطَانٍ كَانَ طَلَبَهُمْ بِسَبَبِ دَعْوَى جِنَايَةٍ ادَّعَى عَلَى صَاحِبٍ لَهُمْ أَنَّهُ جَنَاهَا. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرُوسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهَبَّ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: جَاءَ حَوَارِيُّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَأَتَى حَمَّامًا، فَكَانَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مَنْ صَاحِبِ الْحَمَّامِ، وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ فِي حَمَّامِهِ الْبَرَكَةَ وَدَرَّ عَلَيْهِ الرِّزْقَ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ، وَعَلِقَهُ فَتِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ خَبَرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَبَرَ الْآخِرَةِ، حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا عَلَى مُثُلِ حَالِهِ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَكَانَ يُشْتَرَطُ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي لَا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ، فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ، فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامُ، فَعَيَّرَهُ الْحِوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلِكِ، وَتَدَخُّلُ مَعَكَ هَذِهِ النَّكْدَاءُ، فَاسْتَحْيَا، فَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ، فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ جَمِيعًا، فَأْتِي الْمَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ، فَالْتُمِسَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ هَرَبًا، قَالَ: مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ؟ فَسَمَّوُا الْفِتْيَةَ، فَالْتَمَسُوا، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتَمَسُوا، فَانْطَلَقَ مَعَهُمُ الْكَلْبُ، حَتَّى أَوَاهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْكَهْفِ، فَدَخَلُوهُ، فَقَالُوا: نَبِيتُ هَهُنَا اللَّيْلَةَ، ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ، فَضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ، فَخَرَجَ الْمَلِكُ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَهُمْ حَتَّى وَجَدُوهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ، فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ أَرْعَبَ، فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتُ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ قَتَلَتْهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، وَدَّعَهُمْ فِيهِ يَمُوتُوا عَطَشًا وَجُوعًا، فَفَعَلَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}. يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ}: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ فِي الْكَهْفِ: أَيْ أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النُّوَّمَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: ضَرَبَكَ اللَّهُ بِالْفَالِجِ، بِمَعْنَى ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَرْسَلَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {سِنِينَ عَدَدًا} يَعْنِي سِنِينَ مَعْدُودَةً، وَنَصَبَ الْعَدَدَ بِقَوْلِهِ (فَضَرَبْنَا). وَقَوْلَهُ: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} يَقُولُ: ثُمَّبَعْثنَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَعْدَ مَا ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِيهِ سِنِينَ عَدَدًا مِنْ رَقْدَتِهِمْ، لِيَنْظُرَ عِبَادِي فَيَعْلَمُوا بِالْبَحْثِ، أَيُ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اخْتَلَفَتَا فِي قَدْرِ مَبْلَغِ مُكْثِ الْفِتْيَةِ فِي كَهْفِهِمْ رُقُودًا {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} يَقُولُ: أَصْوَبُ لِقَدْرِ لَبِثِهِمْ فِيهِ أَمَدًا، وَيَعْنِي بِالْأَمَدِ: الْغَايَةَ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: إِلَّا لِمِثْلِـكَ أَوْ مَـنْ أنْـتَ سـابِقُهُ *** سَـبْقَ الْجَـوَادِ إِذَا اسْـتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ، قَوْمٌ مَنْ قَوُمِ الْفِتْيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحِزْبَانِ جَمِيعًا كَافِرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالْآخِرُ كَافِرًا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ كَانَ الْحِزْبَانِ مَنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} مِنْ قَوْمِ الْفِتْيَةِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} يَقُولُ: مَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عِلْمٌ، لَا لِكُفَّارِهِمْ وَلَا لِمُؤْمِنِيهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَمَدًا) فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: بَعِيدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} يَقُولُ: بَعِيدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: عَدَدًا. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (أَمَدًا) قَالَ: عَدَدًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ (أَمَدًا) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ (أَحْصَى) كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَصْوَبُ عَدَدًا لِقَدْرِ لِبَثِهِمْ. وَهَذَا هُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ بِذَلِكَ جَاءَ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِوُقُوعِ قَوْلِهِ (لَبِثُوا) عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِلْبِثِهِمْ غَايَةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ يَا مُحَمَّدُ نَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بِالْحَقِّ، يَعْنِي: بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} يَقُولُ: إِنَّ الْفِتْيَةَ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ الَّذِينَ سَأَلَكَ عَنْ نَبَئِهِمُ الْمَلَأَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، فَتِيَّةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} يَقُولُ: وَزِدْنَاهُمْ إِلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ إِيمَانًا، وَبَصِيرَةٍ بِدِينِهِمْ، حَتَّى صَبَرُوا عَلَى هِجْرَانِ دَارِ قَوْمِهِمْ، وَالْهَرَبِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَفِرَاقِ مَا كَانُوا فِيهِ مَنْ خَفضِ الْعَيْشِ وَلَيَّنِهِ، إِلَى خُشُونَةِ الْمُكْثِ فِي كَهْفِ الْجَبَلِ. وَقَوْلُهُ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَأَلْهَمْنَاهُمُ الصَّبْرَ، وَشَدَدْنَا قُلُوبَهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ حَتَّى عَزَفَتْ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خَفضِ الْعَيْشِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} يَقُولُ: بِالْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: حِينَ قَامُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ دقينوسَ، فَقَالُوا لَهُ إِذْ عَاتَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ عِبَادَةَ آلِهَتِهِ {رَبُّنَا رَبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: قَالُوا رَبُّنَا مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ شَيْءٍ، وَآلِهَتُكَ مَرْبُوبَةٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا أَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ الرَّبِّ وَنَعْبُدَ الْمَرْبُوبَ {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} يَقُولُ: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَهًا، لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَإِنَّ كُلَّ مَا دَوَّنَهُ فَهُوَ خَلْقُهُ {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَئِنْ دَعَوْنَا إِلَهًا غَيْرَ إِلَهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَقَدْ قُلْنَا إِذَنْ بِدُعَائِنَا غَيْرَهُ إِلَهًا، شَطَطًا مِنَ الْقَوْلِ: يَعْنِي غَالِيًا مِنَ الْكَذِبِ، مُجَاوِزًا مِقْدَارُهُ فِي الْبُطُولِ وَالْغُلُوِّ: كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَّا يَـا لَقَـوْمِي قَـدْ أَشْـطَتْ عَوَاذِلِي *** وَيَـزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَـقِّي بَـاطِلِي يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَشِطَ فُلَانٌ فِي السَّوْمِ إِذَا جَاوَزَ الْقَدْرَ وَارْتَفَعَ، يَشِطُّ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا. فَأَمَّا مِنَ الْبُعْدِ فَإِنَّمَا يُقَالُ: شَطٌّ مَنْزِلُ فُلَانٍ يَشِطُّ شُطُوطًا، وَمِنَ الطُّولِ: شَطَّتِ الْجَارِيَةُ تَشِطُّ شِطَاطًا وَشَطَّاطَةً: إِذَا طَالَتْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (شَطَطًا) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} يَقُولُ كَذِبًا. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} قَالَ: لَقَدْ قُلْنَا إِذَنْ خَطَأً، قَالَ: الشَّطَطُ: الْخَطَأُ مِنَ الْقَوْلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْقِيلِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَامَنْ دُونِهِ {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} يَقُولُ: هَلَّا يَأْتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اجْتُزِئَ بِمَا ظَهَرَ عَمَّا حُذِفَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي عَلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ الْآلِهَةِ، وَالْآلِهَةُ لَا يُؤْتَى عَلَيْهَا بِسُلْطَانٍ، وَلَا يُسْأَلُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَابِدُوهَا السُّلْطَانَ عَلَى عِبَادَتِهِمُوهَا، فَمَعْلُومٌ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِمُوهَا، وَاتِّخَاذِهِمُوهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى السُّلْطَانِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} يَقُولُ: بِعُذْرٍ بَيِّنٍ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. وَمِنْ أَشَدُّ اعْتِدَاءً وَإِشْرَاكًا بِاللَّهِ، مِمَّنِ اخْتَلَقَ، فَتَخَرَّصَ عَلَى اللَّهِ كَذَّبَا، وَأَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي سُلْطَانِهِ شَرِيكًا يَعْبُدُهُ دُونَهُ، وَيَتَّخِذَهُ إِلَهًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ بَعْضِ الْفِتْيَةِ لِبَعْضٍ: وَإِذَا اعْتَزَلْتُمْ أَيُّهَا الْفِتْيَةُ قَوْمَكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} يَقُولُ: وَإِذَا اعْتَزَلْتُمْ قَوْمَكُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنَ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ، فَـ “ مَا “ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي مَوْضِعِ نَصَبٍ عَطْفًا لَهَا عَلَى الْهَاءِ، وَالْمِيمِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وَهِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: “ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ “ هَذَا تَفْسِيرهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: فَصَيرُوا إِلَى غَارِ الْجَبَلِ الَّذِي يُسَمَّى بنجلوسَ، {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} يَقُولُ: يَبْسُطُ لَكُمْ رَبُّكُمْ مَنْ رَحِمَتْهُ بِتَيْسِيرِهِ لَكُمُ الْمَخْرَجَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ رُمِيتُمْ بِهِ مِنَ الْكَافِرِ دقينوسَ وَطَلَبِهِ إِيَّاكُمْ لِعَرْضِكُمْ عَلَى الْفِتْنَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} جَوَابٌ لِإِذَ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ قَوْمَكُمْ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، كَمَا يُقَالُ: إِذْ أَذْنَبَتْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} يَقُولُ: وَيُيَسِّرُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَدِينِكُمْ مِرْفَقًا، وَيَعْنِي بِالْمِرْفَقِ: مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ وَغَيْرِ الْيَدِ لُغَتَانِ: كَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُ الْفَاءِ، وَفَتْحُ الْمِيمِ وَكَسْرُ الْفَاءِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُنْكِرُ فِي مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي الْيَدِ إِلَّا فَتْحَ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَحْكِي فِيهِمَا، أَعْنِي فِي مِرْفَقِ الْأَمْرِ وَالْيَدِ اللُّغَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَكَانَ يُنْشِدُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: بَتُّ أُجَافِي مَرْفَقًا عَنْ مَرْفِقِي *** وَيَقُولُ: كَسْرُ الْمِيمِ فِيهِ أَجْوَدُ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِييِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} شَيْئًا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِثْلَ الْمَقْطَعَ، وَمَرْفَقًا جَعَلَهُ اسْمًا كَالْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ لُغَةً، يَقُولُونَ: رَفُقَ يَرْفُقُ مَرْفَقًا، وَإِنْ شِئْتَ مَرْفَقًا تُرِيدُ رِفْقًا وَلَمْ يُقْرَأْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهَّلِ الْمَدِينَةِ: “ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا “ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ فِي الْمَصْرَيْنِ (مِرْفَقًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرَّاءٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي اخْتَارَ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا فِي الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا ارْتَفَقَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَتَرَى الشَّمْسَ} يَا مُحَمَّدُ {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (تَزَاوَرُ): تَعْدِلُ وَتَمِيلُ، مِنَ الزَّوَرِ: وَهُوَ الْعِوَجُ وَالْمَيْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: فِي هَذِهِ الْأَرْضِ زَوَرٌ: إِذَا كَانَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ، وَفِي فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ ازْوِرَارٌ، إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَّهُ إِعْرَاضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ: يَـؤُمُّ بِهَـا الْحُـدَاةُ مِيَـاهَ نَخْـلٍ *** وَفِيهَـا عَـنْ أَبَـانَيْنِ ازْوِرَارُ يَعْنِي: إِعْرَاضًا وَصَدًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ: “ تَزَّاوَرُ “ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، بِمَعْنَى: تَتَزَاوَرُ بِتَاءَيْنِ، ثُمَّ أُدْغِمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الزَّايِ، كَمَا قِيلَ: تَظَّاهَرُونَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (تَزَاوَرُ) بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَالزَّايِ، كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ: تَفَاعَلُ مِنَ الزَّوَرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: “ تَزْوَرُّ “ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَتَسْكِينِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، مِثْلُ تَحْمَرُّ، وَبَعْضُهُمْ: تَزْوَارُّ: مِثْلُ تَحْمَارُّ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي قِرَاءَهِ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ، أَعْنِي (تَزَاوَرُ) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَ(تَزَّاوَرُ) بِتَشْدِيدِهَا مَعْرُوفَتَانِ، مُسْتَفِيضَةٌ الْقِرَاءَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فَإِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ لَا أَرَى الْقِرَاءَةَ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ، لِشُذُوذِهِمَا عَمَّا عَلَيْهِ قِرَأةُ الْأَمْصَارِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} قَالَ: تَمِيلُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} يَقُولُ: تَمِيلُ عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} يَقُولُ: تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ يَمِينًا وَشِمَالًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} يَقُولُ: تَمِيلُ ذَاتَ الْيَمِينِ، تَدَعُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} قَالَ: تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ. حُدِّثَتْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَيْهِمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ لَا يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحٍ، عَنْ سَالِمِ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} تَمِيلُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَتْرُكُهُمْ مِنْ ذَاتِ شَمَالِهِمْ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَعْدِلُ عَنْ كَهْفِهِمْ، فَتَطْلِعُ عَلَيْهِ مِنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، لِئَلَّا تُصِيبُ الْفِتْيَةَ، لِأَنَّهَا لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ قُبَالَهُمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ وَثِيَابَهُمْ، أَوْ أَشْحَبَتْهُمْ، وَإِذَا غَرَبَتْ تَتْرُكُهُمْ بِذَاتِ الشِّمَالِ، فَلَا تُصِيبُهُمْ، يُقَالُ مِنْهُ: قَرَضْتُ مَوْضِعَ كَذَا: إِذَا قَطَعَتَهُ فَجَاوَزْتَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمُحَاذَاةُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنَ الْعَرَبِ قَرَضْتُهُ قُبُلًا وَدُبُرًا، وَحَذَوْتُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَالشَّمَالِ، وَقُبَلًا وَدُبُرًا: أَيْ كُنْتُ بِحِذَائِهِ، قَالُوا: وَالْقَرْضُ وَالْحَذْوُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَصِلُ الْقَرْضِ: الْقَطْعُ، يُقَالُ مِنْهُ: قَرَضْتُ الثَّوْبَ: إِذَا قَطَعَتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِقْرَاضِ: مِقْرَاضٌ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ، وَمِنْهُ قَرَضَ الْفَأْرُ الثَّوْبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِيِ الرُّمَّةِ: إِلَـى ظُعْـنٍ يَقْـرِضْنَ أَجْوَازَ مُشْرِفٍ *** شِـمَالًا وَعَـنْ أَيْمَـانِهِنَّ الْفَـوَارِسُ يُعْنَى بِقَوْلِهِ: يَقْرِضْنَ: يَقْطَعْنَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} يَقُولُ: تَذَرُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمِ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (تَقْرِضُهُمْ) قَالَ: تَتْرُكُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} يَقُولُ: تَدَعُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} قَالَ: تَدَعُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} قَالَ: تَتْرُكُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} يَقُولُ: وَالْفِتْيَةُ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَيْهِ فِي مُتَّسَعِ مِنْهُ يُجْمَعُ: فَجَوَاتٍ، وَفِجَاءٍ مَمْدُودًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} يَقُولُ: فِي فَضَاءٍ مِنَ الْكَهْفِ، قَالَ اللَّهُ {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} قَالَ: الْمَكَانُ الدَّاخِلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} قَالَ: الْمَكَانُ الذَّاهِبُ. حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} قَالَ: فِي مَكَانٍ دَاخِلٍ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فِعْلُنَا هَذَا الَّذِي فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ أَمْرَهُمْ مِنْ تَصْيِيرِنَاهُمْ، إِذْ أَرَدْنَا أَنْ نَضْرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ بِحَيْثُ تَزَاوَرَ الشَّمْسُ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِذَا هِيَ طَلَعَتْ، وَتَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِذَا هِيَ غَرَبَتْ، مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْمُتَّسَعِ مِنَ الْمَكَانِ، بِحَيْثُ لَا تَحْرِقُهُمُ الشَّمْسُ فَتُشْحِبُهُمْ، وَلَا تَبْلَى عَلَى طُولِ رَقْدَتِهِمْ ثِيَابُهُمْ، فَتُعَفِّنُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ، مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ عَلَى عَظِيمٍ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَقَوْلَهُ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ لِلِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ وَحُجَجِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّتِي جَعَلَهَا أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْمُهْتَدِ: يَقُولُ: فَهُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَ سَبِيلَ الْحَقِّ {وَمَنْ يُضْلِلِ} يَقُولُ: وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْ آيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} يَقُولُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ خَلِيلًا وَحَلِيفًا يُرْشِدُهُ لِإِصَابَتِهَا، لِأَنَّالتَّوْفِيقَ وَالْخِذْلَانَ بِيَدِ اللَّهِ، يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ أَرَادَ، يَقُولُ: فَلَا يَحْزُنْكَ إِدْبَارَ مَنْ أَدْبَرَ عَنْكَ مَنْ قَوْمِكَ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ هَدَيْتُهُمْ فَآمَنُوا، وَبِيَدِي الْهِدَايَةُ وَالضَّلَالُ.
|